كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور.
منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلى الله عليه وسلم بالإجماع معصوم من الشيطان لاسيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءامَنُواْ} [النحل: 99] إلى غير ذلك، ومنها زيادته صلى الله عليه وسلم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة، ومنها اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضًا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك متعقدًا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون معتقدًا معنى آخر مخالفًا لما اعتقدوه ومباينًا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرأ لهم على الباطل وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقر على ذلك.
ومنها كونه صلى الله عليه وسلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضًا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسًا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة.
وقال ابن العربي: تصور الشيطان في صورة الملك ملبسًا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسًا على الخلق وتسليط الله تعالى له على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك.
ومنها التقول على الله تعالى إما عمدًا أو خطأ أو سهوًا.
وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الأخبار بخلاف الواقع لا قصدًا ولا سهوًا، ومنها الإخلال بالوثوق بالقران فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى: {فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته} [الحج: 52] لأنه أيضًا يحتمل إلى غير ذلك.
وذهب إلى صحتها الحافظ ابن حجر في شرح البخاري وساق طرقًا عن ابن عباس وغيره ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لَكِن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلًا مع أن لها طريقًا متصلًا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب، والثاني: ما أخرجه أيضًا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة.
وذهب إلى صحة القصة أيضًا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو العالية، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول: قال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضًا لَكِنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسندًا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلًا مرفوعًا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدى الكل ولم يكن ذلك مرادًا لله تعالى والأكمل في العبودية فناء أرادته في أرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمني هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه؛ وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبًا أن يعود لمثل تلك الحالة، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذٍ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضًا ولا ممتزج المدح بالذم ولابد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه: {لِيَجْعَلَ} [الحج: 53] الخ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناءً على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقدًا لمعنى مخالف لما اعتقدوه؛ ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد: {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} [النجم: 23] فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانًا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ في السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاء ويرضى} [النجم: 26].
وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غيره بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة، وأما قول القاضي عياض: لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسًا قادحًا فهو مسلم لَكِنه لم يقع وإن أراد مطلقًا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية.
وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقًا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسًا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسًا على النبي بما لا يكون منافيًّا للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبًا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة.
وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا من يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادًا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلًا؛ وما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبًا كإيقاع السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعًا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قران بناءً على اعتقاد أن الملقى ملك تلبيسًا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدًا أنه مطابق للواقع بناءً على اعتقاد التمام سهوًا، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والإحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوًا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قران بناءً على اعتقاد أن الملقى ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ ابن حجر متعقب.
وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظًا ومعنى إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله} [الحج: 52] الخ لأنه أيضًا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ} [الحج: 54] الخ على انتفاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقران عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل.
هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فكيف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال: «والذي نفسي بيده ما شبه على منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى» إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضًا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلًا إن قلنا بحياتهما.
وأيضًا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى: {أَلْقَى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولًا ثم يذكرها شيئًا فشيئًا، وأيضًا حفظه صلى الله عليه وسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايا فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 193، 194] وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى الله عليه وسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء أرادته صلى الله عليه وسلم في أرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا في الأرض أَوْ سُلَّمًا في السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ} [الإنعام: 35] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلًا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضًا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعًا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ويرد على قوله: إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن كان في ذلك للاستمرار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابه عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودًا مع عدم ترتب أثره عليه؛ والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناءً على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلًا فإن المراد من قوله: فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقى في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدًا.
ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر، وقد يقال: إن إعجاز القران معلوم له صلى الله عليه وسلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي: إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقران أصلًا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي الوراد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.